أصبح هجر الأزواج لأسرهم ظاهرة اجتماعية خطيرة، فكل يوم تطالعنا الصحف باستغاثات من أطفال وزوجات يناشدون رب الأسرة العودة ؛
لأنه خرج ولم يَعُد، ولا يعرف أحد مكانه. والدليل على ذلك توالي نشر إعلانات الطلاق الغيبية، والهجر ليس بظاهرة حديثة، ولكن انتشاره بهذا الشكل المخيف يُعَدّ أمرًا دخيلا على ثقافتنا العربية، فالتاريخ يتذكر كنيسة "برولان" بفرنسا التي بنتها عام 1483 سيدة هجرها زوجها، ومكثت تصلي بها إلى أن عاد زوجها، ومنذ ذلك الحين وتتوالى عليها السيدات للدعاء فيها من أجل عودة الأزواج الهاربين، ورغم تزايد حالات الهجر فإنها تقابل بتجاهل تام في جميع البلدان العربية، فنجد أن هناك مساعدات اجتماعية تصرف للأرامل والمطلقات وأخيرًا للعوانس، أما المهجورات فهن في طي النسيان.
معاناة حكومية
وقد ذهبنا بأنفسنا لنرى ما تعانيه السيدات المهجورات أمام مكاتب الشؤون الاجتماعية، فهن يتراصصن بالمئات لتلقي ملفاتهن في المخازن دون البت فيها! فوزارة الشؤون الاجتماعية بالقاهرة تتلقى أكثر من 200 ملف يوميًّا من سيدات مهجورات يطلبن مساعدة ليتمكنّ من مواجهة الحياة، بل والأغرب أننا علمنا أن الوزارة تطلب منهن شهادة يثبتن فيها أنهن مهجورات، وهذه الشهادة تستخرج من قسم الشرطة، وتتم عن طريق الاختصاصي الاجتماعي بالقسم، حيث تقوم السيدة المهجورة بتقديم محضر "هجر" تقول فيه: "إن زوجها خرج يوم كذا ولم تراه من وقتها ولا تعرف له مكانًا، ويقوم القسم بتحريات على هذه السيدة، ويتولى شيخ الحارة مراقبة منزلها للتأكد من عدم تردد الزوج عليها، وبعد كل هذا العناء الذي يستمر أكثر من شهر تستخرج الشهادة لتضعها في ملف يركن على الرف بوزارة الشؤون الاجتماعية لحين النظر في أمر المهجورات. وهذه الشهادة تجدد كل عام , وفي السودان نجد أن المرأة المهجورة إذا أرادت أن تطلق من زوجها لا تأتي بشهادة هجر وإنما يكتفي القاضي بأن تقسم المرأة بأن زوجها غائب من يوم كذا ولا تعرف له مكانًا، وبناء عليه يتم تطليقها، والمرأة المهجورة ليس لها مصدر رزق سوى بعض البنوك الإسلامية التي تصرف لهن كل شهرين أو ثلاثة أشهر مبلغًا ماديًّا ضئيلاً لا يغني ولا يسمن من جوع.
المهجورات يتكلمن
لم نجد أمام الأعين الدامعة والوجوه التي لم تعرف الابتسامة منذ سنوات إلا أن نسمع حكايات المهجورات، وتحكي لنا درية إبراهيم (40 سنة) قصتها فتقول: "أنا تزوجت بطريقة تقليدية جدًّا، فقد كان زوجي متزوجًا من أختي التي توفِّيت بعد إنجاب أربعة أطفال، ووجدت أطفالها يضيعون أمامي، وقرر أبي زواجي منه، وتزوجنا وعمري وقتها لم يتعدّ العشرين، وكان يعمل سائق ميكروباص، وأنجبت منه 3 أطفال، وكانت الحياة صعبة، فلم يكن معنا ما ننفقه على هؤلاء الأطفال، خاصة بعد أن أدمن المخدرات، وبعد فترة لم يَعُد يعطيني أي نقود، واضطررت أن أعمل بائعة خضراوات أمام منزلي كي أتمكن من رعاية الأطفال السبعة، ولم يكن يرحمني فكان يضربني ويأخذ نقودي، وأنا كنت راضية وأقول (ظل راجل ولا ظل حيطة)، وذات يوم خرج للعمل ولم يَعُد، وبعد ثلاثة أيام سألت عليه أهله وأصدقاءه ولكنني لم أعرف أين هو؟ ولم أسمع عنه سوى أنه هرب مع امرأة لا أعرف هل تزوجها أم لا. ومر 12 عامًا ولم أرَ وجهه ولو لمرة واحدة خلالها، وكبر الأطفال وأصبحوا رجالاً يحمونني من الزمن، ولكن لم يساعدني أحد في محنتي، فقد فكرت مرة أن أذهب إلى الشؤون الاجتماعية كي آخذ مساعدة تمكنني من مواجهة الحياة، وطلبوا مني شهادة هجر، واستخرجتها من قسم الشرطة، وكانت أول مرة أدخل فيها قسمًا للشرطة. وذهبت بها إلى وزارة الشؤون الاجتماعية ووجدت صفوفًا كبيرة من السيدات المهجورات، وتمكنت من تقديم الورقة وانتظرت كثيرًا دون فائدة، وعندما ذهبت كي أسأل عن السبب قالت لي الموظفة إن المهجورات لا يصرف لهن مساعدات، ولكن هناك أوامر بأخذ الورق ووضعه لحين البت فيه. ومن يومها نسيت هذه القصة تمامًا، واعتمدت على نفسي بعد أن تخلى عني زوجي، ولكن لم أتمكن من تعليم كل أطفالي وهذا ما يشعرنني بالعجز، فكنت أتمنى أن يكون معي ما يجعلهم متعلمين كي يحموا أنفسهم ولا يأخذوا حظي من الدنيا.
ليس الفقراء فقط
ولم يكن المهجورات جميعهن من أوساط اجتماعية وتعليمية متدنية، وإنما نجد "عليا سعد" وهي أستاذة جامعية عمرها 45 سنة ولها ابن وحيد، تقول: "كان زوجي أستاذي في الجامعة، ونشأت بيننا قصة حب رومانسية، وتزوجنا بعد التخرج، ورزقنا الله بطفل جميل، وبعد فترة كبيرة من زواجنا وجدته يتغير ويميل للعزلة، وزادت الخلافات بيننا بدون أسباب واضحة، وفجأة استيقظت ذات يوم ولم أجده بجواري، ولم أره من يومها، وعرفت من الجامعة أنه استقال، ومرت الأعوام ولم أعرف عنه أي شيء، ولم يسأل عن طفله واضطررت لرفع دعوى قضائية لتطليقي، ولكن ما عانيته من إهانات داخل أقسام الشرطة يجعلني أقر بأن المهجورات ليس لهن حق، ولا أحد يعترف بهن رغم اعتراف العالم بهن.
الجنسية المختلفة
وجدنا نماذج أخرى عديدة من الزوجات المهجورات يشتركن في أنهن تزوجن من رجال ليسوا من نفس جنسيتهن؛ فقد جاؤوا للدراسة أو لظروف قاسية مرت ببلدهم وفجأة تستيقظ المرأة لتجد ورقة يكتب فيها "رجعت إلى بلدي"، فتصاب بذهول وتفيق على واقع مؤلم، وأبناء من جنسية مختلفة لا بد أن تدفع له إقامة ونفقات تعليمه مرتفعة، كل هذا في ظل الظروف الاقتصادية المتدنية، وعدم توافر فرص عمل وقلة حيلة المهجورات , فالمهجورات لا يتحملن المعاناة الاقتصادية فقط وإنما هناك معاناة نفسية شديدة.
الهجر كظاهرة اجتماعية
يعود السبب الرئيسي لهروب الأزواج من تحمل أعباء الأسرة إلى التفكك الأسري الذي انتشر بشكل خطير في الآونة الأخيرة، هذا ما أكده الدكتور أشرف عبد الوهاب، مدرس علم الاجتماع بكلية الآداب - جامعة حلوان (مصر)، كما يشير إلى أن السبب في هذا هو الانفتاح على قيم وتقاليد مختلفة عما هو شائع في المجتمع العربي الإسلامي، والتأثر بالأنماط الثقافية الوافدة من الخارج والتي ترتب عليها تغير الدور التقليدي للأسرة، فلم تَعُد هي المصدر الرئيسي لتنشئة الأبناء، بل شاركها في ذلك مؤسسات ونظم عديدة، بحيث يمكن القول بأن الأفراد في المجتمع قد فقدوا الإحساس بقيمة الأسرة، مما يترتب عليه تزايد احتمالات هروب الأزواج من تحمل نفقات ومسؤوليات أسرة لم يَعُد هو سيدها والمسيطر عليها، كما أن هناك بعض الأسباب الأخرى التي يمكن أن تؤدي إلى هروب الأزواج، ولعل أهمها هو المرأة نفسها والتي لم تَعُد توفر لزوجها الجو الأسري الملائم والذي يجعله يحافظ دائمًا على بناء الأسرة وتماسكها، ويزداد هذا الأمر خطورة نتيجة الضغوط الاجتماعية التي يتعرض لها الزوج سواء داخل الأسرة أو في عمله أو في المجتمع المحلي الذي يعيش فيه.. كل هذه العوامل مجتمعة تزيد من احتمالات هروب الأزواج وانفراط عقد الأسرة، بما يترتب عليه من تزايد احتمالات تشرد الأبناء.
مما آلمني حقا ،،