\
كان الهاتف البلاستيكي في إحدى واجهات محال لعب الأطفال .. أحمر
اللون .. رديء الصنع .. زهيد الثمن , ليس مما يعبأ به الأطفال , ناهيك
ناهيك عن سيدة عجوز مثلها تناهز السبعين , لكنها حينما أبصره ابتاعته دون
تردد ومضت به صوب منزلها وهي ترتجفمن الانفعال .
....
هي الشمس تنحدر نحو الغرب مؤذنة بالوداع الحزين .. متفردة مثلها
متوحدة مثلها تنحدر على الأفق الغربي وترمق بعين دامعة موطنها
الشرقي القديم , قبل ما تؤوب مثلها إلى دارها الموحش من البشر ,
الأبكم عن الأحاديث , الخاوي من الأنفاس .
كانت جدتها العجوز هي شمسها الوحيدة .. وحينما غربت تلك
الشمس إلى الأبد تجرعت غصاصة اليتم وبدأت رحلة الضياع في
بيوت الأقارب الذين لم يرحبوا بها لحظة واحدة .
كان ذلك منذ خمسين عاما .
وهاهي قد آذنت شمسها هي الأخرى بالرحيل .. توشك أن تتم
السبعين من عمرها المديد .. هي بحمد الله في صحة جيدة بالمقارنة
لعمرها , ولا تعاني سوى الفراغ القاتل .. إنها لم تتزوج وليتها فعلت ..
إنها لاتدري تفسيرا لذلك سوى النصيب , لم تبالغ في شروط
اختيار الزوج ولكنها أيضا لم تبتذل في عرض نفسها .. ولم تتلق
عروضا جدية حتى أدركتها الكهولة .
المشكلة أن رحلة الشمس صوب الأفق الغربي قد تاطأت , والليل
أيضا صار أطول لعجوز لا تغفو سوى أربع ساعات على
الأكثر ولا تدري ماذا تصنع بنفسها طيلة الساعات الطويلة المتبقية
كانت النزهة اليومية كل أصيل هي سلواها التي تدخرها منذ
الصباح .. تتجول في الطرقات المجاورة لمنزلها .. وأمام واجهات
المحال وتبتاع أشياء لا حاجة لها بها
....
في هذا اليوم وبينما هي تسير إذا بأحد محال لعب الأطفال يعرض
هاتفا بلاستيكيا مما يلهو به الأطفال .
تسمرت قدمها أمام الهاتف البلاستيكي الأحمر الصغير وراحت
ترمقه مشدوهة
ياللذكريات . !
لقد كان لديها هاتف أحمر اللون يماثله منذ ستين عاما . ابتاعته
الجدة الحنون لها وكان تمضي الساعات الطويلة في الحديث مع
أصدقاء لا وجود لهم إلا في خيالها .. وكانت الجدة تبتسم في تسامح
كلما مرت بها وهي تثرثر مع أطفال وهميين ..
ولكنها مالبثت أن سأمت اللهو به كدأب الأطفال .. إلا أن ماحدث
بعدها كان لا يصدق .
دق جرس الهاتف فجأة وهي تتهأب للنوم
انتهضت في فراشها من الدهشة والوجل , إنها تعلم جيدا أنهم لا
يمتلكون هاتفا في المنزل
ونهضت من فراشها في بطء لتجد أن الهاتف البلاستيكي الأحمر
الذي تلهو به يدق في إصرار .
وبيد مرتجفة رفعت السماعة وانصتت .
هل كان ذلك الصوت العذب ينتمي إلى هذا العالم ؟
هل تعرف تغريد البلبل للفجر وغزل النحلة للزهور وثرثرة الشهب
وهي تشق الفضاء ؟
هل سمعت كم الحنان الذائب في صوت أمها وهي تدللها قبل أن
تموت .
لم تزل تذكر رغم الستين عاما ذلك الصوت الملائكي العذب وهو
يهمس في أذنيها بأعذب الألحان ويروي أجمل القصص .
وأغفت في هذه الليلة والسماعة على أذنها وابتسامة سعيدة ترتسم
على شفتيها .
في الصباح التالي أخبرت جدتها العجوز بالأمر فابتسمت لها في حنان
إلا أنها شعرت أنها تأبى تصديقها , وهي الأخرى خالته حلم باسما ,
في المساء لم تنم .. شرعت تحدق صوب السقف وترتقب .
خامرتها خيبة أمل مريرة حين تذكرت ذلك الحديث العذب الجميل
وطفقت تبكي , ومن خلال صوت البكاء الرتيب سمعت رنين الجرس ,
وفي وثبة واحدة رفعت سماعة الهاتف .
هل عرفت صوت تدفق العسل من بطن النحلة ؟ وحبوب القمح وهي
تنتقل من فم الحمامة على فراخها ؟ وحفيف الشجر قبل أن يوجد
البشر على سطح الارض ؟
أغفت في تلك الليلة وقد اتسعت ابتسامتها عن الأمس ؟
ولم تعد تخبر جدتها بذلك .. تعلمت أن هذا الأمر هو سرها الخاص
الذي يجب أن تكتمه على الجميع وأن رنين الهاتف البلاستيكي
الأحمر لا يدوي إلا إذا كانت وحدها ..
....
تذكر ذلك كله وتعجب منه
متى انقطعت تلك المكالمات الهاتفية ؟
لا تذكر تاريخا محددا .. ربما حدث ذلك عندما بدأت تكبر وتفكر
الحق أنها تدريجيا قد بدأت تستشعر الذعر وتتساءل في نفسهاهل
تتوهم الأمر كله ؟
....
والآن بعد كل هذه السنوات يعود الهاتف إلى عالمها .
ابتاعت الهاتف البلاستيكي الأحمر دون تردد , وعادت إلى منزلها على
الفور لتخلو مع ذكرياتها الحميمة .
في منزلها لاح لها هاتف آخر .. هاتف حقيقي لكن لا نفع منه .. أبكم
قلما يدق مالم يكن الإتصال خاطئا .. وهي لا تدري لماذا تحتفظ به ؟
ربما لتستنجد بالأخرين حيال أي وعكة صحية تباغتها وإن كانت لا
تدري بمن تستنجد ومن يعبأ بها ؟
ولكن لماذا هذه الخواطر الحزينة في ذلك اليوم السعيد ؟
وفكرت في جدتها .. رحمها الله .. كانت ارحم بها من نفسها .
لم تسترسل في خواطرها أكثر .. فقد رن جرس الهاتف .
مضت إليه وهي تعلم أنه اتصال خاطئ .
رفعت السماعة .. إلا أن جرس الهاتف لم يتوقف .. استمر في الرنين .
ارتجفت وهي ترنو إلى الهاتف الآخر .. الهاتف غير الحقيقي ..
الهاتف البلاستيكي الأحمر .. كان الرنين ينبعث منه .
وضعت سماعة الهاتف عن أذنيها
وأصغت .. أصغت .....
في تلك الليلة نامت وابتسامة سعيدة على شفتيها
بقلم / د . أيمن الجندي
الحنين الوحدة تدفع الإنسان لتوهم الأحداث والعيش فيها
وكأنها حقيقة