رغم أن حركة وول ستريت الأميركية قالت عن نفسها إنها استلهمت الثورة المصرية، فإن الحركة تحمل أيضا من الملامح ما يجعلها امتدادا لحركة مناهضة العولمة.
فالارتباط بين حركة وول ستريت والثورة المصرية، بل وغيرها من الثورات العربية، هو أن الأخيرة أثبتت أن الشعوب يمكنها الانتصار على أعتى القوى. والمؤكد أن عام 2011 عام استثنائي، فيه انطلقت الشعوب في كل مكان دفاعا عن حريتها وحقها في العيش بكرامة. والشعوب لم تنتفض فقط ضد نظم حكم قمعية، وإنما خرجت للشوارع في نظم ديمقراطية أيضا، احتجاجا على أوضاعها الاقتصادية ومطالبة بالعدل الاجتماعي، بعد أن أدركت أن المؤسسات الديمقراطية صارت عاجزة عن الاستجابة لمطالب الناس، لأنها صارت أسيرة لجماعات المصالح وأصحاب المال على حسابهم.
لكن حركة وول ستريت تمثل أيضا، في رأيي، امتدادا لحركة مناهضة العولمة. وهي الحركة العالمية التي كانت قد انطلقت في تسعينات القرن العشرين، في شتى أنحاء المعمورة من بريطانيا للمكسيك ومن الفلبين لجنوب إفريقيا، وراحت تزداد قوة وصعودا حتى بلغت الذروة في سياتل 1999. لكن أحداث سبتمبر 2001 فرضت نفسها وغيرت المزاج العام، عبر إثارة الذعر وصرف الانتباه عن كل القضايا الكبرى التي تهم الناس، تحت شعار "مكافحة الإرهاب". وقد أعاقت أحداث سبتمبر أيضا، نمو الحركة وحجمت نشاطها، بسبب القيود التي فرضت على الحريات العامة، خصوصا في الولايات المتحدة وأوروبا.
وحركة مناهضة العولمة في التسعينات، كانت تقف بوضوح ضد نوع العولمة الجاري صنعه وقتها، والتي كانت تعطي حقوقا لا نهائية للشركات العملاقة ولصناعة المال، وترفع القيود الحكومية عنها، على حساب المواطن العادي. وهي عولمة من شأنها الإضرار بالبيئة وحقوق العمال في كل مكان في العالم، فضلا عن أنها تقيم علاقات تجارة حرة ظالمة للدول الأضعف اقتصاديا والأقل نموا.
لكن، لعل الفارق بين حركة وول ستريت - التي صارت عالمية هي الأخرى في الأيام القليلة الماضية - وبين حركة مناهضة العولمة، هو ذلك الذي أشارت إليه الكاتبة المعروفة نعومي كلاين، التي شاركت في الحركتين. فهي اعتبرت أن حركة مناهضة العولمة كانت تناهض سياسات أدركت خطورتها على البيئة والعمال والعدالة الاجتماعية، ولكنها انطلقت في وقت كانت الولايات المتحدة والكثير من دول أوروبا تعيش انتعاشا اقتصاديا ملحوظا. أما حركة وول ستريت، فقد انطلقت بعد أن كانت تلك السياسات نفسها قد أنتجت الأوضاع الكارثية التي حذرت منها الحركة الأولى.
وربما يكون هذا الفارق الذي أشارت إليه كلاين، هو بالضبط أحد مصادر قوة حركة "احتلوا وول ستريت". فالتغير في مقدرات الحركة خلال أسبوعين فقط، يمثل مؤشرا مهما في هذا الاتجاه. فحين كتبت في هذا المكان عن الحركة منذ أسبوعين، كانت الحركة لا تزال ضعيفة والتعتيم الإعلامي المفروض عليها يقتلها. لكن كانت هناك بوادر لانضمام قطاعات واسعة لها، الأمر الذي جعلني أقول في نهاية المقال، إن تلك الحركة لو قدر لها أن تكتسب قوة فإن من شأنها أن "تغير وجه الحياة في أميركا". وما إن مر أسبوع حتى كانت الحركة قد نمت وخرجت من أسر التعتيم الإعلامي، حيث ازداد باطراد عدد المعتصمين في نيويورك، ثم انطلقت الاحتجاجات إلى ألف وأربعمئة مدينة أميركية أخرى، بينما انتقلت العدوى من الولايات المتحدة إلى أكثر من ثمانين دولة حول العالم، فخرجت المظاهرات في مئات المدن تدافع عن القضية نفسها، وتناهض السياسات ذاتها.
لذلك فإن الخط الفاصل بين الداخل الأميركي وما يحدث خارج الولايات المتحدة، صار أقل وضوحا بكثير من ذي قبل. ففي الداخل الأميركي، تعاني حركة وول ستريت صعوبات لأنها برزت في وقت انحرفت فيه الولايات المتحدة كثيرا نحو اليمين، وانطلقت في مواجهة حركة حفل الشاي اليمينية، التي كانت مسؤولة عن دفع البلاد مزيدا نحو اليمين في الانتخابات التشريعية العام الماضي.
والمفارقة الجديرة بالتأمل، أن حركة حفل الشاي ـ إذا ما تغاضينا عن ما فيها من ملمح عنصري لا تخطئه العين - فإنها في الأساس حركة البيض المحافظين، الذين يشعرون بوطأة الأزمة الاقتصادية. لكن حركة حفل الشاي لم تعبر عن نفسها عبر مواجهة صناعة المال والشركات العملاقة، التي تسببت بسلوكها غير المسؤول، وفي غيبة القيود الحكومية، في الأزمة، وإنما صبت جام غضبها على الحكومة، واعتبرت أن الحل هو تقليص دورها وخفض الضرائب.
أما حركة وول ستريت المتنوعة عرقيا وإثنيا، فإنها قامت أيضا احتجاجا على الأوضاع الاقتصادية، ولكنها وجهت أصابع الاتهام لوول ستريت، أي لصناعة المال وللشركات العملاقة، واعتبرت أن السياسات القائمة وعدم محاسبة هؤلاء، هو المسؤول عن معاناة 99% من الأميركيين الذين يعيشون أوضاعا صعبة. بعبارة أخرى، رغم أن دافع الحركتين واحد، فإن حفل الشاي اختزلت الموضوع في الدور الحكومي، بينما ترى حركة وول ستريت أن تقليص دور الحكومة كان مسؤولا عن توحش تلك الشركات وقراراتها غير المسؤولة. ومن ثم فإن الحل عندها هو علاج الخلل الهيكلي، المرتبط ليس بمحاسبة هذه المؤسسات العملاقة فقط، وإنما بتقويض سيطرة صناعة المال والأعمال على المؤسسات الديمقراطية ذاتها، بل وعلى الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
لكننا نعيش في عالم لم تعد فيه الحدود تعيق انتقال الأفكار ولا انتقال عدواها وتأثيرها. فلعل القاسم المشترك بين كل الحركات الشعبية في 2011، من تونس لمصر ومن أسبانيا لنيويورك، هو العدالة الاجتماعية. ومن ثم فإن انتقال العدوى من بلد لآخر، يمثل ضغوطا هائلة على الحكومات جميعا، القمعية منها أو تلك "الديمقراطية" التي اختطفتها مصالح الكبار ولم تعد تعبر عن 99% من شعوبها، بما فيها الحكومة الأميركية أيضا