قال الشيخ العلامة عبد الرحمن بن يحيى المعلمي اليماني رحمه الله رحمة واسعة :
أولاً:
التفكير في شرف الحق وضِعَةِ الباطل: وذلك بأن يفكر في عظمة الله، وأنه رب
العالمين، وأنه سبحانه يحب الحق ويكره الباطل، وأن من اتبع الحق استحق
رضوان رب العالمين، فكان سبحانه وليه في الدنيا والآخرة، بأن يختار له كل
ما يعلمه خيراً له وأشرف حتى يتوفاه راضياً مرضياً، فيرفعه إليه ويقربه
لديه، ويحله في جوار ربه مكرماً منعماً في النعيم المقيم، والشرف الخالد،
الذي لا تبلغ الأوهام عظمته.
وأن من أخلد إلى الباطل استحق سخط رب العالمين وغضبه وعقابه، فإن آتاه
شيئاً من نعيم الدنيا؛ فإنما ذلك لهوانه عليه ليزيده بعداً عنه، وليضاعف له
عذاب الآخرة الأليم الخالد الذي لا تبلغ الأوهام شدته .
ثانيًا:
يفكر في نسبة نعيم الدنيا إلى رضوان رب العالمين ونعيم الآخرة، ونسبة بؤس
الدنيا إلى سخط رب العالمين وعذاب الآخرة: ويتدبر قول الله عز وجل : {
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ
الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ . أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ
قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا
بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا
سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ . وَلَوْلَا أَنْ
يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ
بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا
يَظْهَرُونَ . وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا
يَتَّكِئُونَ . وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ}[سورة الزخرف] .
ويفهم من ذلك أنه لولا أن يكون الناس أمة واحدة؛ لابتلى الله المؤمنين بما
لم تجر به العادة من شدة الفقر والضر والخوف والحزن وغير ذلك، وحسبك أن
الله ابتلى أنبيائه وأصفيائه بأنواع البلاء .وعَنْ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((
مَثَلُ الْمُؤْمِنِ كَمَثَلِ الْخَامَةِ مِنْ الزَّرْعِ تُفِيئُهَا
الرِّيحُ تَصْرَعُهَا مَرَّةً وَتَعْدِلُهَا أُخْرَى حَتَّى تَهِيجَ
وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ الْمُجْذِيَةِ عَلَى أَصْلِهَا
لَا يُفِيئُهَا شَيْءٌ حَتَّى يَكُونَ انْجِعَافُهَا مَرَّةً وَاحِدَةً ))
رواه البخاري ومسلم.
والمقصود من الحديث: تهذيب المسلمين، فيأنس المؤمن بالمتاعب والمصائب،
ويتلقاها بالرضا والصبر والاحتساب، راجياً أن تكون له عند ربه، ولا يتمنى
خالصاً من قلبه النعم ولا يحسد أهلها، ولا يسكن إلى السلامة والنعم ولا
يركن إليها، بل يتلقاها بخوف وحذر وخشية؛ أن تكون إنما هيئت له لاختلال
إيمانه، فترغب نفسه إلى تصريفها في سبيل الله، فلا يخلد إلى الراحة ولا
يبخل، ولا يعجب بما أوتيه، ولا يستكبر ولا يغتر، ولم يتعرض الحديث لحال
الكافر؛ لأن الحجة عليه واضحة على كل حال .
وعَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ قَالَ قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ
النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً قَالَ: (( الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ
فَالْأَمْثَلُ فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَإِنْ كَانَ
دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ
ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ
حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ )).
رواه الترمذي وأحمد والدارمي.
وقد ابتلى أيوب بما هو مشهور. وابتلى يعقوب بفقد ولديه، وشدد أثر ذلك على
قلبه فكان كما قصه الله في كتابه:{ وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا
أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ
كَظِيمٌ}[سورة يوسف] .
وابتلى محمد عليه وعليهم الصلاة والسلام بما تراه في السيرة، فكلّفه أن
يدعو قومه إلى ترك ما نشأوا عليه تبعاً لآبائهم من الشرك والضلال، ويصارحهم
بذلك سراً وجهاراً، ليلاً ونهاراً، ويدور عليهم في نواديهم ومجتمعاتهم
وقراهم، فاستمر على ذلك نحو ثلاث عشرة سنة، وهم يؤذونه أشد الأذى مع أنه
كان قد عاش قبل ذلك أربعين سنة أو فوقها ولا يعرف أن يؤذي؛ إذ كان من
قبيلة شريفة، في بيت محترم موقر، ونشأ على أخلاق كريمة احترمه لأجلها
الناس ووقروه، ثم كان ذلك على غاية الحياء والغيرة وعزة النفس.
ومن كانت هذه حاله؛ يشتد عليه غاية الشدة أن يؤذى، ويشق عليه غاية المشقة
الإقدام على ما يعرضه لأن يؤذى، ويتأكد ذلك في جنس ذاك الإيذاء: هذا يسخر
منه، وهذا يسبه، وهذا يبصق في وجهه، وهذا يحاول أن يضع رجليه على عنقه
إذا سجد لربه، وهذا يضع سلى الجزور على ظهره وهو ساجد، وهذا يأخذ بمجامع
ثوبه ويخنقه، وهذا ينخس دابته حتى تلقيه، وهذا عمه يتبعه أنى ذهب يؤذيه،
ويحذر الناس منه، ويقول : إنه كذاب، وإنه مجنون. وهؤلاء يغرون به
السفهاء، فيرجمونه حتى تسيل رجلاه دماً، وهؤلاء يحصرونه وعشيرته مدة
طويلة في شعب ليموتوا جوعاً، وهؤلاء يعذبون من اتبعه بأنواع العذاب،
فمنهم من يضجعونه على الرمل في شدة الرمضاء ويمنعونه الماء، ومنهم من
ألقوه على النار حتى ما أطفأها إلا ودك ظهره، ومنهم امرأة عذبوها لترجع
عن دينها فلما يئسوا منها طعنها أحدهم بالحربة في فرجها فقتلها.
كل ذلك لا لشئ إلا أنه يدعوهم إلى أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، ومن
الفساد إلى الصلاح، ومن سخط الله إلى رضوانه، ومن عذابه الخالد إلى نعيمه
الدائم، ولم يلتفتوا إلى ذلك مع وضوح الحجة، وإنما كان همهم أنه يدعوهم
إلى خلاف هواهم .
ومن وجه آخر ابتلى الله عز وجل نبيه صلى الله عليه وآله وسلم بأن قبض أبويه
صغيراً، ثم جده ثم عمه الذي كان يحامي عنه، ثم امرأته التي كانت تؤنسه،
وتخفف عنه، ثم لم يزل البلاء يتعاهده صلى الله عليه وآله وسلم- وتفصيل
هذا يطول- هذا وهو سيد ولد آدم، وأحبهم إلى الله عز وجل .
فتدبر هذا كله؛ لتعلم حق العلم ما نتنافس فيه ونتهالك عليه من نعيم الدنيا
وجاهها ليس هو بشئ في جانب رضوان الله والنعيم الدائم في جواره، وأن ما
نفرّ منه من بؤس الدنيا ومكارهها ليس هو بشيء في جانب سخط الله، وغضبه
والخلود في عذاب جهنم، فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ
الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ فِي
النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا
قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ فَيَقُولُ لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ
وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ
الْجَنَّةِ فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ فَيُقَالُ لَهُ يَا ابْنَ
آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ
فَيَقُولُ لَا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ وَلَا
رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ)) رواه مسلم .
ثالثًا:
يفكر في حاله بالنظر إلى أعماله من الطاعة والمعصية: فأما المؤمن فإنه يأتي
الطاعة راغباً نشيطاً لا يريد إلا وجه الله والدار الآخرة، فإن عرضت له
رغبة في الدنيا فإلى الله فيما يرجو معونته على السعي للآخرة، فإن كان
ولا بد ففيما يغلب على ظنه أنه لا يثبطه عن السعي للآخرة. وهو على كل حال
متوكل على الله، راغب إليه أن يختار له ما هو خير وأنفع، ثم يباشر
الطاعة خاشعاً، مستحضراً أن الله يراه ويرى ما في نفسه، ويأتي بها على
الوجه الذي شرعه الله، وهو مع ذلك كما قال الله تعالى: {…يُؤْتُونَ مَا
آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ
رَاجِعُونَ}[سورة المؤمنون].
فهو يخاف ويخشى أن لا تكون نيته خالصة، وذلك أن النية الصالحة قد تكون من
قوي الإيمان، وقد تكون من ضعيفه، الذي إنما يطيع احتياطًا، وقد لا تكون
خالصة بل يمازجها رغبة في ثواب الدنيا لأجل الدنيا، أورغبة في الآثار
الطبيعية ككسر الشهوة حيث لا يشرع، وكتقوية النفس. وكمنفعة البدن كالذي
يصوم ليصح، ويصلي التراويح لينهضم طعامه .
وكحب الترويح عن النفس كالذي يأتي الجمعة ليتفرج، ويلقى أصحابه، ويقف على
أخبارهم . وكمراعاة الناس لكي يمدحوه، ويثنوا عليه، فيعظم جاهه، ويصل إلى
أغراضه ولا يمقتوه… إلى غير ذلك من المقاصد. كالعالم يريد أن يراه الناس
ويعظموه ويستفتوه، فيشتهر علمه ويعظم جاهه، وغير ذلك.
والمؤمن- ولو خلصت نيته في نفس الأمر- لا يستطيع أن يستيقن ذلك من نفسه.
والمؤمن يخاف ويخشى أن لا يكون أتى بالطاعة على الوجه المشروع، وهكذا تستمر
خشية المؤمن بالنظر إلى طاعاته السالفة، يرجو أن يكون قبلها الله بعفوه
وكرمه، ويخشى أن يكون ردت لخلل فيها- وإن لم يشعر به- أو لخلل في أساسها
وهو الإيمان .
هذه حال المؤمن في الطاعات، فما عسى أن تكون حاله في المعاصي؟ وقد قال الله
تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ
الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ . وَإِخْوَانُهُمْ
يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ}[سورة الأعراف].
فالمؤمن يتصارع إيمانه وهواه، فقد يطيف به الشيطان، فيغفله عن قوة إيمانه،
فيغلبه هواه فيصرعه، وهو حال مباشرة المعصية ينازع نفسه، فلا تصفوا له
لذتها، ثم لا يكاد جنبه يقع على الأرض، حتى يتذكر، فيستعيد قوة إيمانه،
فيعض أنامله أسفاً وحزناً على غفلته التي أعان بها عدوه على نفسه، عازماً
على أن لا يعود لمثل تلك الغفلة .
وأما إخوان الشياطين، فتمدهم الشياطين في الغي فيمتدون فيه، ويمنونهم
الأماني فيقنعون، فمن الأماني أن يقول : الله قدره علي، فما شاء فعل .. قد
اختلف العلماء في حرمة هذا الفعل، قد اختلفوا في كونه كبيرة، والصغائر
أمرها هين .. لي حسنات كثيرة تغمر هذا الذنب .. لعل الله يغفر لي .. لعل
فلاناً يشفع لي .. سوف أتوب !
وأحسن حاله أن يقول: أستغفر الله، ويرى أنه قد تاب ومحي ذنبه، قال الله
تعالى:{ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ
عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ
يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ
مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ…
}[سورة الأعراف].
وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال: (( إِنَّ الْمُؤْمِنَ يَرَى
ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ
وَإِنَّ الْفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ
فَقَالَ بِهِ هَكَذَا )) .
رابعًا :
يفكر في حاله مع الهوى:
افرض أنه بلغك أن رجلاً سب إمامك، وآخر سب إماماً آخر، أيكون سخطك عليه
وسعيك في عقوبته وتأديبه أو التنديد به موافقاً لما يقتضيه الشرع فيكون
غضبك على الأول والثاني قريباً من السواء؟
افرض أنك قرأت آية فلاح لك منها موافقة قول لإمامك، وقرأت أخرى فلاح لك
منها مخالفة قول آخر له، أيكون نظرك إليهما سواء، لا تبالي أن يتبين منها
بعد التدبر صحة ما لاح لك، أوعدم صحته ؟
افرض أنك وقفت على حديثين لا تعرف صحتهما ولا ضعفهما، أحدهما يوافق قولاً
لإمامك، والآخر يخالفه، أيكون نظرك فيهما سواء، لا تبالي أن يصح سند كل
منهما، أويضعف ؟
افرض أنك نظرت في مسألة قال إمامك قولاً، وخالفه غيره، ألا يكون لك هوى في
ترجيح أحد القولين، بل تريد أن تنظر لتعرف الراجح منها فتبين رجحانه؟
افرض أن رجلًا تحبه، وآخر تبغضه تنازعا في قضية، فاستفتيت فيها، ولا تستحضر حكمها، وتريد أن تنظر ألا يكون هواك في موافقة الذي تحبه؟
افرض أنك وعالماً تحبه، وآخر تكرهه أفتى كل منكم في قضية وأطلعت على فتويي
صاحبيك فرأيتهما صواباً، ثم بلغك أن عالماً آخر اعترض على واحدة من تلك
الفتاوى، وشدد النكير عليها، أتكون حالك واحدة سواء أكانت هي فتواك، أم
فتوى صديقك، أم فتوى مكروهك ؟
افرض أنك تعلم من رجل منكراً وتعذر نفسك في عدم الإنكار عليه، ثم بلغك أن
عالماً أنكر عليه وشدد النكير، أيكون استحسانك لذلك سواء فيما إذا كان
المنكِر صديقك أم عدوك، والمنكَر عليه صديقك أم عدوك ؟
فتش نفسك تجدك مبتلى بمعصية أونقص في الدين، وتجد من تبغضه مبتلى بمعصية
أونقص آخر ليس في الشرع بأشد مما أنت مبتلى به؟ فهل تجد إستشناعك ما هو
عليه مساوياً لاستشناعك ما أنت عليه، وتجد مقتك نفسك مساوياً لمقتك إياه؟
وبالجملة فمسالك الهوى أكثر من أن تحصى، ولم يكلف العالم بأن لا يكون له
هوى؟ فإن هذا خارج عن الوسع، وإنما الواجب على العالم أن يفتش نفسه عن
هواها حتى يعرفه، ثم يحترز منه، ويمعن النظر في الحق من حيث هو حق، فإن بان
له أنه مخالف لهواه؛ آثر الحق على هواه .
والعالم قد يقصر في الاحتراس من هواه ويسامح نفسه، فتميل إلى الباطل،
فينصره، وهو يتوهم أنه لم يخرج من الحق ولم يعاده، وهذا لا يكاد ينجوا منه
إلا المعصوم، وإنما يتفاوت العلماء:
فمنهم: من يكثر الاسترسال مع هواه: ويفحش حتى يقطع من لا يعرف طباع الناس، ومقدار تأثير الهوى بأنه متعمد.
ومنهم: من يقل ذلك منه ويخف: ومن تتبع كتب المؤلفين الذين لم يسندوا
اجتهادهم إلى الكتاب والسنة رأسا؛ً رأى فيها العجب العجاب، ولكنه لا يتبين
له إلا في المواضع التي لا يكون له فيها هوى، أو يكون هواه مخالفاً لما
في تلك الكتب، على أنه إذا استرسل مع هواه زعم أن موافقيه براء من الهوى،
وأن مخالفيه كلهم متبعون للهوى . وقد كان من السلف من يبلغ في الاحتراس
من هواه حتى يقع في الخطأ الآخر، كالقاضي يختصم إليه أخوه وعدوه، فيبالغ
في الاحتراس حتى يظلم أخاه، وهذا كالذي يمشي في الطريق ويكون عن يمينه
مزلة فيتقيها ويتباعد عنها، فيقع في مزلة عن يساره !
خامسًا:
يستحضر أنه على فرض أن يكون فيما نشأ عليه باطل، لا يخلو عن أن يكون قد سلف
منه تقصير أو لا : فعلى الأول: إن استمر على ذلك كان مستمراً على النقص
ومصراً عليه، وذلك هو هلاكه، وإن نظر فتبين له الحق، فرجع إليه حاز
الكمال، وذهبت عنه معرة النقص السابق، فإن التوبة تجب ما قبلها، والتائب
من الذنب كمن لا ذنب له، وقد قال الله تعالى: {…إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}[سورة البقرة].
وفي الحديث: (( كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ )) رواه الترمذي وابن ماجة والدارمي وأحمد.
وأما الثاني: وهو أن لا يكون قد سبق منه تقصير، فلا يلزمه بما تقدم منه نقص
يعاب به البتة، بل المدار على حاله بعد أن ينبه، فإن تدبر وتنبه فعرف
الحق فاتبعه فقد فاز، وكذلك إن اشتبه عليه الأمر فاحتاط، وإن أعرض ونفر؛
فذلك هو الهلاك .
سادسًا:
يستحضر أن الذي يُهمه، ويُسأل عنه هو حاله في نفسه : فلا يضره عند الله،
ولا عند أهل العلم والدين والعقل أن يكون معلمه، أو مربيه، أو أسلافه، أو
أشياخه على نقص، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يسلموا من هذا، وأفضل
هذه الأمة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ورضى عنهم، وكان
آباؤهم وأسلافهم مشركين . هذا مع احتمال أن يكون أسلافك معذورين إذا لم
ينبهوا، ولم تقم عليهم الحجة .
وعلى فرض أن أسلافك كانوا على خطأ يؤاخذون به فاتباعك لهم وتعصبك لا ينفعهم
شيئاً، بل يضرهم ضرراً شديداً، فإنه يلحقهم مثل إثمك، ومثل إثم من يتبعك
من أولادك وأتباعك إلى يوم القيامة، كما يلحقك مع إثمك مثل إثم من يتبعك
إلى يوم القيامة، أفلا ترى أن رجوعك إلى الحق هو خير لأسلافك على كل
حال؟
سابعًا:
يتدبر ما يُرجى لمؤثر الحق من رضوان رب العالمين، وحسن عنايته في الدنيا،
والفوز العظيم الدائم في الآخرة، وما يستحقه متبع الهوى من سخطه عز وجل،
والمقت في الدنيا، والعذاب الأليم في الآخرة: وهل يرضى عاقل لنفسه أن
يشتري لذة اتباع هواه بفوات حسن عناية رب العالمين، وحرمان رضوانه،
والقرب منه، والزلفى عنده، والنعيم العظيم في جواره، وباستحقاق مقته
وعذابه الأليم؟
لا ينبغي أن يقع هذا حتى من أقل الناس عقلاً، سواء أكان مؤمناً موقناً بهذه
النتيجة، أم ظاناً لها، أم شاكاً فيها، أم ظاناً لعدمها، فإن هذين
يحتاطان، وكما أن ذلك الاشتراء متحقق ممن يعرف أنه متبع هواه، فكذلك من
يسامح نفسه، فلا يناقشها ولا يحتاط .
ثامنًا:
يأخذ نفسه بخلاف هواها فيما يتبين له : فلا يسامحها في ترك واجب، أو ما
يقرب منه، ولا في ارتكاب معصية، أوما يقرب منها، ولا في هجوم على مشتبه،
ويروضها على التثبت والخضوع للحق، ويشدد عليها في ذلك حتى يصير الخضوع للحق
ومخالفة الهوى عادة له .
تاسعًا :
يأخذ نفسه بالاحتياط فيما يخالف ما نشأ عليه : فإذا كان فيما نشأ عليه
أشياء يرى أنه لا بأس بها، أو أنها مستحبة، وعلم أن من أهل العلم من يقول
إنها شرك، أو بدعة، أو حرام، فيأخذ نفسه بتركها حتى يتبين له بالحجج
الواضحة صحة ما نشأ عليه، وهكذا ينبغي له أن ينصح غيره ممن هو في مثل حاله،
فإن وجدت نفسك تأبى ذلك، فأعلم أن الهوى مستحوذ عليها، فجاهدها .
واعلم أن ثبوت هذا القدر على المكلف أعنى أن يثبت عنده أن ما يدعى إليه
أحوط مما هو عليه كاف في قيام الحجة عند الله عز وجل، وبذلك قامت الحجة على
أكثر الكفار، فمن ذلك:
المشركون من العرب، لم يكن في دينهم الذي كانوا عليه تصديق بالآخرة، وإنما
يدعون آلهتهم ويعبدونها للأغراض الدنيوية، مع علمهم أن مالك الضر والنفع
هو الله وحده، ولذلك كانوا إذا وقعوا في شدة دعوا الله وحده، قال تعالى: {
وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ … }[سورة لقمان].
وكانوا يرون من هو على خلاف دينهم لا يظهر تفاوت بينه وبينهم في أحوال
الدنيا، وعرفوا فيمن أسلم مثل ذلك، ثم عرض عليهم الإسلام، وعرفوا على الأقل
أنه يمكن أن يكون حقاً، وأنه إن كان حقاً ولم يتبعوه تعرضوا للمضار
الدنيوية، وللخسران الأبدي في الآخرة، فلزمهم في هذه الحال أن يسلموا؛ لأنه
إن كان الأمر كما بدا لهم من صحة الإسلام، فقد أخذوا منه بنصيب، وإلا
فتركهم لما كانوا عليه لا يضرهم كما لا يتضرر من خالفهم، فلم يمنعهم من
الإسلام إلا إتباع الهوى .
قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}[سورة فصلت] .
وقال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ
كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}[سورة
فصلت].
وقال تعالى: { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ
وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى
مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ
الظَّالِمِينَ}[سورة الأحقاف].
وتكذيبهم للحق وإعراضهم عنه بعد أن قامت الحجة عليهم بأن تصديقه واتباعه
أحوط لهم وأقرب إلى النجاة؛ ظلم شديد منهم استحقوا به أن لا يهديهم الله
إلى استيقان أنه حق، وهذا كما في قصة نوح، وقال تعالى: {…وَلَقَدْ
جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا
كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ
الْكَافِرِينَ}[سورة الأعراف] .
ونحوها في سورة يونس: { ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى
قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا
كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ
الْمُعْتَدِينَ}.
وقال عز وجل: { وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ
جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ
اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ .
وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ
أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ}[سورة
الأنعام].
وفي [تفسير ابن جرير7 / 194]: ‘…عن ابن عباس قوله : {وَنُقَلِّبُ
أَفْئِدَتَهُمْ}… قال:’ لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على
شئ وردت عن كل أمر’.
عاشرًا :
يسعى في التمييز بين معدن الحجج ومعدن الشبهات : فإنه إذا تم له ذلك؛ هان
عليه الخطب، فإنه لا يأتيه من معدن الحق إلا الحق، فلا يحتاج إن كان
راغباً في الحق، قانعاً به إلى الإعراض عن شئ جاء من معدن الحق، ولا إلى
أن يتعرض لشيء جاء من معدن الشبهات، لكن أهل الأهواء قد حاولوا التشبيه
والتمويه، فالواجب على الراغب في الحق أن لا ينظر إلى ما يجيئه من معدن
الحق من وراء زجاجاتهم الملونة، بل ينظر إليه كما كان ينظر إليه أهل الحق .
والله الموفق .
المصدر : كتاب الشيخ ” القائد إلى تصحيح العقائد “