السؤال
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أردت أن أعرض عليك مشكلتي, التي أرجو أن تتقبل بصدر رحب، وأن تتفضلوا بالنصيحة، ولن أطيل بالتفاصيل، وإن كانت قد تغير بعض الشيء في فهمكم للموضوع.
باختصار تعرفت منذ سنة على شاب عن طريق الإنترنت، وكان الهدف منذ الأول الزواج لا غير (أنا تونسية على فكرة ) علم أهلي بالأمر وكنت عندها مازلت في الثانوية العامة، فعارضوا موضوع الخطبة معارضة شديدة خوفا - من وجهة نظرهم على دراستي - وأنا أؤكد أن مدى الضرر الذي لحق بي من ذلك الرفض قد يتجاوز بأضعاف ما يمكن أن ينجر عن بعض الانشغال بخطيب... على كل حال راعيت الظروف وفضلت أن لا أزعج أبويّ لا غير، وأغلقت الباب ومرّت سنة، الله وحده يعلم كيف مرّت عليّ وعليه, قطعنا فيها الاتصال ببعضنا تقريبا كليّا.
كللت السنة الدراسية بالنجاح والحمد لله رغم كل ما عانيته من آلام, حصلت على معدل 18.32 من 20. ظننت حينها أن المانع انقطع... واتصل الشاب بأبي ليطلب منه موعدا لمقابلته وإذا به يفاجأ بجواب "لن أتحدث في هذا الموضوع قبل سنة أو سنتين من الآن" وكانت تلك الكلمات بمثابة الصفعة لي وله بعد سنة من الصبر لا لشيء إلا مسايرة لولديّ ومبالغة في اللطف والانهزامية نوعا ما... لا أدري إن كان ما أقوله صحيحا ولكنه رأيي على الأقل؟
لا أخفي عنك أننا شديدي التعلق ببعض، فنحن على نفس المستوى الديني والفكري، ونتمتع بتفاهم مبالغ فيه في بعض الأحيان.. باختصار لا يمكن لأحدنا التخلي عن الآخر، كان كل هذا مقدمة.
الموضوع: لا أرى سببا كافيا يجعلني أؤجل زواجي إلى ما بعد الدراسة (سأدرس الطب - إن شاء الله - يعني أتخرج تقريبا بعد خمس سنوات دون حساب سنتي التربص) ولكني لا أجد سبيلا لإقناع أبي بأنه حقا لا بأس أن أتزوج وأنا بالعشرين من عمري، وأن أواصل بذات الوقت الدراسة... بل إنه من الظلم أن يفّرق بين حبيبين لغير سبب مقنع، ولا أن يردّ ذو الدين والخلق، ونحن صراحة نخاف على أنفسنا الفتنة.
الحمد لله على كل حال... هو طرق جميع الأبواب التي قد توصله إليّ وطلب من الكثيرين أن يكونوا واسطة خير ولكن دون جدوى، وأنا لا زلت أخاف مواجهة والدي لأنّني لا أحتمل أن أراه غاضبا مني ولو طرفة عين... بذات الوقت أخشى على نفسي ألا أقيم حدود الله، وأن أقع في نوع من العلاقات المحرمة.
المشكل يزداد تعقيدا مع الوقت ولا أحد يحسّ بي, حتى من الوالدين اللّذين يظنان أنهما يبحثان عن مصلحتي هم أبعد ما يكون عن السعي لتحقيق سعادتي (التي تتحقق حتما بالعيش مع الزوج الصالح الذي يعفني ويوصلني حسن معاشرته بقدرة الخالق إلى الجنة) والأسوأ من ذلك أنهما لا يعلمان مدى السوء الذي ألحقاه ويلحقانه بي.. أحاول دائما أن أظهر بوجه بشوش وأن لا أضايق أحدا ولكن طاقة الاحتمال مآلها الحتميّ النفاذ، فأرجو النصيحة.
كل شيء مقبول إلا أن أتخلى عن من أحب فإني حتما إن ارتبطت بغيره سأظلم غيره قبل أظلم نفسي.. ومزيد الانتظار سيكون حتما مؤلما لكلينا، والفتنة تزداد يوما بعد يوم، نسأل الله السلامة.
في انتظار ردّكم. يبدو أني أطلت رغما عني.. أعتذر.. حفظكم الله بما يحفظ به عباده الصالحين... السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الإجابــة
بسم الله الرحمن الرحيم
الأخ الفاضل/ مريم حفظه الله.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد،،،
فواضح بحمد الله عز وجل أنك لا تقصدين إلا الحلال الذي شرعه الله تعالى، وواضح أيضًا عفافك وكرم نفسك وأنك لا تبغين إلا أن تكوني زوجة طاهرة لزوج طاهر تقيمان معًا شرع الله تعالى، وتؤسسان بيتًا قوامه طاعة الله وأساسه تقوى الرحمن جل وعلا.
ومع أنك - أختي الكريمة - عندما تعرفت على هذا الشاب قد اتخذت أسلوبًا فيه نظر إلا أن الأمر قد تمَّ والأمر قد وقع، وكان الأولى هو أن تتركي مثل هذا الأسلوب لما يجر من الويلات والمخاطر الكثيرة التي لا تخفى على نظرك الكريم، فإن خير ما تقوم به الفتاة أن تتحرز من مثل هذه المعاملات قدر استطاعتها حتى لا تقع فيما يغضب الله جل وعلا، وحتى لا تقع أيضًا فريسة لذئاب البشر، إلا أن هذا الشاب بحمد الله عز وجل قد ظهر خيره وظهر فضله وظهر صدقه، كذلك عندما تقدم إلى والدك وبيَّن رغبته الصريحة والواضحة في أن يتقدم إليهم، ولا ريب - أختي الكريمة - أن والديك هما أحرص الناس على مصلحتك وأشدهم عناية بتوفير النجاح لك في هذه الحياة الدنيا وفي الآخرة، إلا أن موقفهما الكريم فيه نظر من الناحية الشرعية، فأنتِ قد تقدم إليك هذا الشاب وأراد أن يخطبك وأن يرتبط بك على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فطرق الباب من وجهه؛ فكان ينبغي أن يستقبل وينبغي أن يعامل بما هو أهله من الإكرام، وأيضًا أن يمكناك من أن تنشئي حياة سعيدة مع زوج تحبينه ويحبك وتقيمان معًا طاعة الرحمن، فلا ريب أن أعظم مصلحة تحققينها الآن هي إعفاف نفسك وإعفاف هذا الشاب الذي مال إليك.
والمقصود أن موقف والديك حملهما عليه حرصهما عليك ورغبتهما في إيصال أعظم النفع إليك، ومع هذا فموقفهما كما أشرنا فيه نظر من الناحية الشرعية؛ ولذلك سيكون علاج هذا الأمر من جهتك علاجًا رفيقًا، ولكن أيضًا مع شيء من الوضوح في الخطوات وشيء من الوضوح والصراحة فيما تحاولينه في هذا الأمر، وأول ما تبدئين به هو:
1- الاستعانة بالله والتوكل عليه واللجوء إليه، فاسألي ربك التوفيق واسأليه الإعانة، واسأليه أن يلين قلب والديك الكريمين، فإن قلوب العباد بين أصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء، فاجعلي فزعك إلى الله جل وعلا، واجعلي ملجأك إليه، وستجدين الإعانة لا محالة؛ قال الله تعالى: {ومن يتوكل على الله فهو حسبه}. وقال صلى الله عليه وسلم: (احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده أمامك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة) رواه أحمد في المسند.
2- أن تكوني صريحة، وهذه الصراحة لا تعني الجرأة التي لا تليق بفتاة كريمة الخلق مثلك؛ ولذلك خير ما تبدئين أن تبدئي بوالدتك الكريمة لأنها أقرب إليك وأكثر تفهمًا لوضعك كفتاة مقبلة على الزواج، فبيني لها أنك راغبة في هذا الشاب وأنه راغب فيك، وأنك إنما ترغبين في دينه وخلقه، وأن الفتاة مصيرها أن تذهب إلى بيت زوجها، وأنك بحمد الله يمكنك إكمال تعليمك ولو كنت في بيت الزوجية، وأن خاطبك لا يمانع من ذلك أصلاً، فأنت سوف تحققين مصلحتين عظيمتين: مصلحة التعليم ومصلحة كذلك الظفر بالزوج، لاسيما وأن هذا الشاب قد يتركك ويذهب إلى غيرك إن لم تتمكن من أن يظفر بك كزوجة، فبيني لأمك أن تفويت هذه المصلحة سيضر بك إضرارًا عظيمًا، وسيؤثر على نفسيتك، وبيني لها أيضًا أن المصلحة العظمى إنما تكمن في أن تعفي نفسك، وأن تحصلي بيت الزوجية الذي هو أوكد الأمور وأعظمها بالنسبة لأي امرأة مؤمنة.
وبيني لها أيضًا ما أشرنا إليه من عدم تعارض ذلك مع أمر الدراسة، وحاولي أن تقنعيها أو تؤثري عليها ليكون بعد ذلك تمهيدًا للكلام مع الوالد الكريم فينضم صوتها إلى صوتك، وتكون الإجابة أقرب في هذه الحالة. مضافًا إلى ذلك أن تنتقلي للخطوة الثالثة وهي:
3- بيان الحكم الشرعي في مثل هذه الحال، فوالداك الكريمان قد حرصا على مصلحتك وما قاما به إنما هو من منطلق رؤيتهما الكريمة لمصلحتك التي يرياها، إلا أن الحكم الشرعي يخالف هذا الأمر فإن الله جل وعلا حرم عليهما وعلى كل والد ووالدة أن يمنعا ابنتهما من الزواج إذا طرق بابها الشاب المناسب المؤمن صاحب الخلق والدين، وهذا من العضل المحرم، ومعنى العضل المنع، أن تمنع البنت التي تأهلت للزواج من أن تزوج بالرجل المناسب لها، قال تعالى: {فلا تعضلوهنَّ أن ينكحن أزواجهنَّ إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذلكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون}، ومعنى {فلا تعضلوهن} أي فلا تمنعوهنَّ، وقد اتفق العلماء على حرمة منع الفتاة من الزواج ممن يصلح لها، وعدوا ذلك من الظلم العظيم، فبيني لهم هذا الحكم بلطف ورفق وهدوء، متجنبة الانفعال الزائد قدر استطاعتك، واستعيني بالله وتوكلي عليه فإن قلوب العباد بين أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء.. بيني لوالديك الكريمين أن الحكم الشرعي يقتضي الموافقة وعدم الوقوف حجر عثرة في طريق سعادة الفتاة إذا طرق بابها الرجل المناسب في دينه وخلقه، وهذا قد بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله: (إذا خطب إليكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه إلا تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض) رواه الترمذي.
4- أن تكوني مع ما تقدمنا من الإشارة والوضوح مبينة لهم أن مصلحتك تقتضي أن يوافقوا وألا يترددوا، وهذا يحتاج منك البيان الواضح، وهذا قد أشرنا إليه، ولكن المقصود بهذه الخطوة هو أن تكوني واضحة مع والدك أيضًا إذا كلمك، فلا مانع أن تبيني له وبكل وضوح أنك راغبة في الزواج، وأنك تريدين أن تحققي المصلحة الأعظم في هذا الأمر، والمقصود أن بيانك الواضح لوالدك الكريم ولوالدتك الكريمة لا بد أن يكون على أسلوب الصراحة والوضوح التامين، مع الرفق والأدب الجمّ الذي لا يخفى على نظر مثلك، وأنت بحمد الله على خلق وأدب.
فالمقصود أن يكون لك مثل هذه الخطوات اللطيفة وبرفق وهدوء حتى يتقدم هذا الخاطب ليخطبك، مبينة لوالديك أن هذا الخاطب قد لا ينتظرك إذا رفضته، وأنه قد يعسر عليه أن ينتظر الخمس سنوات القادمة، وهذا أمر لا ريب أنه شاق على النفس.
مضافًا إلى ذلك أن تحببي إليهم هذه الفكرة بأن تبدئي بفكرة أن يرتبط بك بعقد شرعي يجعلك زوجة ولو تأخر الزفاف بعد ذلك سنة أو سنتين، فهذا كمبدأ، ولا مانع بعد ذلك عند حصول العقد أن تدخلا في إتمام الزفاف وأن تنضما إلى بعضكما البعض، وإنما هذا وسيلة في الإقناع ووسيلة في تحقيق هذا الأمر.
والمقصود أنه لابد من الصراحة، ولابد من الوضوح، ولابد أيضًا من الرفق في هذا الأمر؛ فإذا انضاف إلى ذلك إمكان استعانتك ببعض العلاقات من عماتك أو خالاتك اللاتي يعنك في هذا الأمر فهذا أمر يمكن اللجوء إليه عند الحاجة، وإن كان الأولى هو أن يظل الأمر بينك وبين والديك الكريمين حتى يتم علاج ذلك بهدوء ورفق.
فاحرصي على هذا الأمر- يا أختي - واحرصي أيضًا على تقوى الله، وعلى عدم أي علاقة مع هذا الشاب إلا بعد عقد الزواج الشرعي الذي يبيحك له، وتذكري قول الله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ويَرْزُقْهُ مِنْ حَيْث لا يحتسب}، وقال صلى الله عليه وسلم: (اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن) أخرجه الترمذي في سننه.
وعليك أن تعلمي أن الزواج قسمة من الله يقسمها لمن يشاء من عباده، فأجملي وأحسني في طلب ما عند الله من الرزق، وتوكلي على ربك، والله يتولاك ويرعاك ويحفظك، ونسأل الله لك التوفيق والسداد وأهلاً بك ومرحبًا بك في الشبكة الإسلامية، ونود أن تعيدي الكتابة إلى الشبكة الإسلامية لمتابعة هذا الأمر معك، مع التكرم بالإشارة إلى رقم هذه الاستشارة.
وبالله التوفيق.