من هو عبد الكريم قاسم؟ سؤال ربما يبدو ساذجا بالنسبة لنا نحن الصحفيين لأننا بالتأكيد نعرف ان عبد الكريم قاسم هو مفجر ثورة 14 تموز التي تحلّ ذكراها الـ 53 هذه الايام ، وهو الذي ترأس الحكومة العراقية منذ عام 1958 وحتى عام 1963 حيث قتل في انقلاب غادر قامت به قوى فاشستية وبدعم من اطراف عربية واجنبية ، ونعرف نحن معشر الصحفيين ان الزعيم عبد الكريم قاسم كان مثالا للنزاهة ، لم يسرق مال الدولة ولم يرتش ولم يعين أقاربه في مناصب كبيرة ولم يقرب الاحباب والأصدقاء، ظل يعيش حتى آخر يوم في حياته عيشة الكفاف ، بعد موته نسج البسطاء عنه حكايات واساطير كثيرة ،حتى ان البعض ظل يتصور سنوات ان صورة الزعيم انطبعت على وجه القمر فأخذ العراقيون يراقبون القمر من على سطوح البيوت علهم يحظون بمشاهدة صورة زعيمهم المحبوب ، كانت النزاهة ميزته التي ظلت عالقة معه حتى اليوم.
شاعت قصص كثيرة عن عبد الكريم قاسم حتى اعتقد البعض انه سيعود لينقذ البلاد من طغيان البعثيين.
يقول المؤرخ رشيد الخيون: " سمعت مِن أحد زوار الإمام الرِّضا بأنه سمع بوجود عبد الكريم قاسم هناك، وقصص اخرى لا تعد ولا تُحصى، وكلُّ هذا مِن أسباب الحب، فليس لدى الفقراء سوى الآمال".
ويذكر العقيد محسن الرُّفيعي أن الزَّعيم اصطحبه في جولته الليلية إلى خلف السَّدة وكانت ليلة ماطرة فقال له: «انظر يميناً ويساراً، هل يمكن لبشر أن يعيش وسط هذه الأجواء، والله لأسكنهم في دور عامرة مجهزة بالماء والكهرباء وتتصل ببغداد بطرق معبدة ،وبالفعل شرع بذلك، وأسكن أهل الصَّرائف بدور تليق بالإنسان.
ويقول المعماري الكبير محمد مكية، أطال الله بعمره ناهز الآن الخامسة والتسعين، أن دُعي إلى مقابلة الزَّعيم بمقر وزارة الدِّفاع، فطلب منه تناول الغداء معه، وإذا به يفتح السِّفرطاس، المحمول مِن بيت شقيقته أو شقيقه، ولا يزيد على ما حمله السِّفرطاس مِن طعام .
اليوم بعد مرور ما يقارب من خمسة عقود على استشهاد عبد الكريم قاسم، هل يتذكره الجيل الجديد ، وهل يعرفون من مؤسس جمهوريتهم؟ هذا السؤال حملناه معنا ونحن نجري هذا الاستطلاع حيث قمنا بطرح سؤال واحد على معظم الذين التقينا بهم وهو.. هل تعرف من هو عبد الكريم قاسم؟، طبعا خرجنا من جولتنا بأجوبة طريفة ولكن المحصلة النهائية كانت في الاجماع الذي حصل عليه الزعيم الراحل من حب ومن تقدير واشادة بنزاهته التي أصبحت اليوم يضرب بها المثل ويقارن الناس بينها وبين سياسيين ومسؤولين لم يعودوا يفرقون بين اموال الدولة وأموالهم الخاصة!
أحد قادة عمليات بغداد!
جولتنا في شوارع وساحات بغداد اشرت لنا الكثير عن وعي وثقافة الشباب من هذا الجيل، ففي شارع السعدون وقفنا امام بائع بسطية (حاجة بربع) الشاب لؤي قاسم البالغ من العمر 20 سنة وسألناه: هل يعرف من هو عبد الكريم قاسم؟ قال ببساطة: لا اعرفه ولم اسمع باسمه، إلا أنّ شريكه في العمل المدعو فائز البالغ من العمر 18 سنة بعد ان فكر قليلاً قال ها لقد عرفته.. انه احد قادة عمليات بغداد وهو ممتلئ الجسم ووجهه مدور واسمر اللون ( يقصد اللواء عبد الكريم خلف).
بائع السكائر احمد البالغ من العمر 35 سنة احتج على عدم معرفة جاره بائع البسطية بالزعيم عبد الكريم قاسم وصرخ ، ( لك اكو واحد ما يعرف مفجر وقائد ثورة 14 تموز ؟) وتابع احمد: صحيح أنني لم أكن قد ولدت في تلك الفترة الذهبية من تاريخ العراق إلا أنني قرأت عنها الشيء الكثير وعندما سألنا احمد عن شهادته قال بحسرة انا خريج معهد التكنلوجيا إلا أنني لم احصل على فرصة عمل فوقفت في الشارع في بسطية لبيع السكائر!
بائع قناني الماء والمشروبات الغازية طه خريج الدراسة المتوسطة والبالغ من العمر 18 سنة قال: أنه لا يعرف شخصا بهذا الاسم ابدا ، ولم يقرأ عنه ابدا ، صباغ الاحذية رائد البالغ من العمر 19 سنة خريج الدراسة المتوسطة انكر هو الآخر معرفته بزعيم ثورة 14 تموز الزعيم عبد الكريم قاسم ، ودخلنا مقهى صغيرة كانت تضم مجموعة من الذين نال منهم حر تموز وهواؤه اللاهف فجلسوا يروون عطشهم بشرب قناني الماء البارد والمرطبات قال احدهم ، اسمي عبد العزيز الفريجي (قاص) عمري 63 سنة لم اعاصر ايام الثورة فقد كنت صغير السن إلا أنني في حيرة من امر هذه الثورة التي يطلق عليها احيانا بالانقلاب العسكري واحيانا اخرى بالثورة التي غيّرت النظام من الملكي الى الجمهوري ، ووصف الفريجي عبد الكريم قاسم بالقائد الوطني وقال: منذ رحيله وإلى الآن والعراق يعيش ازمة القائد الوطني حيث لم نجد شخصية وطنية تماثل شخصية الراحل عبد الكريم قاسم ، عبد الامير البدران قاص وأديب من مواليد 1937 وجدناه من ضمن رواد تلك المقهى الصغيرة وعند سؤالنا عن عبد الكريم قاسم قال البدران :
- عبد الكريم قاسم هو الرجل الوحيد الذي اعطى للعراق الكثير ولم يأخذ شيئاً مقابل ذلك ، وهو السياسي الذي احرج الاستعمار بالقانون رقم 80 ، والذي كان السبب في القضاء عليه ، وتمت محاصرته إثر تشريع ذلك القانون ، وقال قاسم انني لا ابيع النفط إلا بالدينار العراقي وهو بذلك ضرب عصفورين بحجر واحد وهي الخروج من الكتلة الاسترلينية واعطى للدينار العراقي قيمته واصبح الدينار في عهده سيد العملات ، وهو الذي اصدر العديد من القوانين منها قانون الخدمة والملاك وقانون الاحوال الشخصية وأسس قانون نقابة الصحفيين وتحوّلت النقابة من جمعية توزع الاعلانات فقط الى نقابة مهنية حرفية ، كما قام ببناء مدن عدة للفقراء منها مدينة الثورة التي كانت من الصرائف والتي تسمى ( خلف السدة ) صارت بجهوده مدينة كبيرة تسمى الان مدينة الصدر وتضم نصف سكان مدينة بغداد حيث يبلغ تعدادها الآن أكثر من ثلاثة ملايين نسمة ، واقام الحزام الأخضر، قدم لنا الكثير من المكتسبات ، في زمانه كان عدد الموظفين 6 آلاف موظف ، وفي عام واحد من حكمه صار عدد الموظفين 41 ألف موظف ، الآن نعاني البطالة المقنعة في دوائر الدولة، الان مجلس النواب في رأي البدران يجب ان يحاسب اعضاءه وخاصة الذين ينشغلون بالايفادات والمكاسب الشخصية في حين يتقاضون رواتب هائلة ، ويختتم البدران حديثة بالتاكيد على حاجة البلد الى شخصية وطنية مثل شخصية عبد الكريم قاسم .
كان يشبه الامام علي
والتقينا المواطن علي عبد الهادي الدباس ، من مواليد 1967حاصل على شهادة معهد التكلوجيا / جامعة بغداد ، الذي أشار إلى أن المنجزات التي حققها عبد الكريم قاسم برغم الفترة القصيرة التي حكم فيها لم يستطع غيره انجازها بضعف المدة التي قضاها في حكم العراق ، ومشاريعه العمرانية لا زالت قائمة يعيش فيها العديد من المواطنين الفقراء ويكفي الزعيم فخراً أنه خرج من الحكم وهو لا يملك شيئا ، حتى انني والكلام لا زال للمواطن الدباس سمعت في إحدى الروايات أن أخته طلبت منه ان يعطيها دارا لأنها كانت تسكن بالإيجار، فرفض وقال لها: أنت لا تختلفين عن الآخرين وحالك حال الفقراء من الشعب ، وهذه الصفات لا يمتلكها إلا الرجال الأتقياء الذين هم على شاكلة الإمام علي بن ابي طالب (عليه السلام) مع العلم انه كان رجلاً علمانياً كما هو معروف عنه ، وبرغم النتاقضات التي امتازت فيها فترة حكمه إلا أنه استطاع أن يقود البلد ويقدم له الكثير كما يؤكد لنا اباؤنا وأجدادنا .
لا أعرفه
صاحب بسطية لبيع السكائر اسمه مالك يبلغ من العمر 14 سنة ( وان كان يبدو في العشرين) قال مالك: انه لا يعرف القراءة ولا الكتابة وهو أُمي ، وعندما سألناه: هل يعرف شخصاً اسمه عبد الكريم قاسم اقسم بالله بأنه لا يعرفه ولم يسمع به أبداً !! وحسين بائع المرطبات البالغ من العمر 25 سنة ويحمل الشهادة الاعدادية عندما سألناه عن شخصية عبد الكريم قاسم وهل سمع به؟ أشار حسين باستغراب! وهل هناك من لا يعرف عبد الكريم قاسم الذي حّول العراق من النظام الملكي الى النظام الجمهوري ؟ في سنة 1954!! وقد سمعنا عنه انه كان رجلا شريفا ووطنيا ، نتمنى ان يكون لدينا رجل واحد مثله في الحكم الآن!
الموظف في وزارة الصحة رعد محمود من مواليد 1977 قال: أن عبد الكريم قاسم أنزه شخصية عرفها العراق، الذي أحب الفقراء وسكن قلوبهم منذ ذلك الوقت لكن القدر لم يمهله ليقدم الكثير لابناء شعبه ، فكان ان أُعدم وهو في اوج عطائه الوطني .
محمود يعمل كاسبا وعمره 39 سنة قال: أنه قرأ عنه الشيء الكثير ، وهو شخصية متفردة لا وجود لمثلها في الكرة الارضية ، ورئيس جمهورية رُويت عنه قصص كثيرة تحكي عن انسانيته وعطفه وكرمه ، ويقال انه كان إنساناً بسيطاً ومن عائلة بسيطة معروفة والموجودون الآن في الحكم لا يصلون إلى نزاهته!
المواطن جبار جرو عمره 70 سنة بائع سبح قال: أنه رأى عبد الكريم قاسم في الباب الشرقي في ليلة شتاء باردة وفي الساعة الثانية عشرة ليلا ترجل من سيارته ولم يكن معه سوى السائق ورجل الحرس الوحيد الذي كان يرافقه في جولاته الليلية، ويؤكد جبار ان الزعيم غادر السيارة وانضم إلينا لتناول قدح من الحليب الحار في عربة خشبية لبيع الحليب الساخن في شتاءات بغداد الباردة ، ويتذكر الحادثة تلك العم جبار ويقول: أنه كان يعمل آنذاك في مطعم تاجران ، ويضيف أيضاً أن احد المارين طلب من الزعيم ان يعطيه النقود لانه لا يمتلكها فمد الزعيم يده في جيبه واخرج ديناراً واحداً هو كل ما يمتلكه وقال للسائل: خذه فانا لا املك غيره وهو ( احسن من الماكو !!) وقبل أن يتم إلقاء القبض عليه في عام 1963 ذهبنا اليه في وزارة الدفاع وكنت انا معهم وقلنا له اعطينا سلاحا لندافع عنك فرد علينا قائلا: (لا أريد أن يسقط بسببي ولا شخص واحد ، انهم يقصدوني انا شخصياً) وبالفعل لم نشاهده بعد ذلك ..
بائع الملابس (الفانيلات) رحيم علي كاظم عمره 64 عاما أُميّ لا يعرف القراءة ولا الكتابة عندما سألناه: هل تعرف عبد الكريم قاسم؟ أجاب نعم انه ابو الثورات ، وقائد ثورة لم يستطع غيره القيام بها ، احبه من كل قلبي كما يحبه جميع العراقيين لقد اسقط الزعيم حلف بغداد لكن صدام حسين ارجع حلف بغداد ، ساند الفقراء ببناء مدينتي الثورة وحي العامل ومدينتي الشعلة والحرية ووزع الدور والاراضي على الأرامل والأيتام ، وعندما طلبت منه شقيقته ان يعطيها دارا قال لها عندما يمتلك كل فقير داراً خاصة به ستكون لك انت دار .. رحمه الله كان نزيها امينا على امو ال الدولة ومن سوء حظنا لم يحكم إلا فترة قصيرة ، فلو امهله الله ان يحكم فترة اطول لكان حالنا الان ليس بهذا السوء والتفكك والفقر والبطالة!
دموع نائب الضابط
كان رجلا يقف منزويا يمسح دموعه بكم دشداشته وهو يسمع حديثنا في الشارع تقدمت منه وقد لفت انتباهي وهو بذلك الموقف تقدمت منه وانا أسأله أن كنا قد اثرنا شجونه او استنكاره بتجمعنا ذلك لكنه صمت ثم انخرط في نوبة بكاء سرعان ما خنقها وهو يقول: اعذريني أنا كنت نائب ضابط في وزارة الدفاع وقد شاهدت تلك الايام المشؤومة من انقلاب 14 رمضان ، كان الجو باردا جدا وكان عبد الكريم قاسم في الجامع الذي بجوار مبنى وزارة الدفاع ، قلنا له نحن جميعا فداك فقط وزع علينا السلاح وسترى كيف سنقضي عليهم ، هؤلاء الجرذان ، لكنه رفض قال لا تخشوا شيئا ان الله معنا ما دمنا على حق ، وانتحب نائب الضابط محسن البالغ من العمر 74 عاما وهو يذكر لنا كيف رآه مقيداً عبر شاشة التلفزيون وقد اخترقت الرصاصات رأسه الشريف ، ساعتها يقول محسن ادركت اننا خسرنا رجل العراق الاوحد الذي لا يمكن ان يجود الزمان به.
طلبة الجامعات
ثم انتقلنا الى مبنى جامعة بغداد في الجادرية وتقدمنا من ثلاث طالبات من كلية البنات كن يتحدثن بامور شخصية وسألناهن : هل يعرفن من هو عبد الكريم قاسم؟ قالت عبير 23 سنة: لقد شاهدته في صورة مع والدي العسكري اظنه كان وزيرا للدفاع في حكومة عبد السلام عارف.. في حين صمتت الطالبات الاخريات ، احد طلبة كلية القانون قال: أن عبد الكريم قاسم قائد ثورة ، إلا أن صدام حسين كان (يغار) منه وضربه في محاولة للقضاء عليه وقد أُصيب صدام في ساقه وهرب الى مصر هذا ما رأيناه في فلم الايام الطويلة الذي كان يعرض في كل مناسبة بل وحتى من دون مناسبة، طالب في كلية الهندسة طارق قال: أظن أن عبد الكريم قاسم وزير دفاع في عهد نوري السعيد ، صديقه الطالب حسام قال: أنتم الصحافة لماذا دائما تبحثون عن الامور القديمة ، عليكم الان الحديث عن معاناة الطلبة بعد التخرج والبطالة التي تنتظرهم فأين فرص الاستثمار وأين الخطط التي تنتشلنا من القلق الذي نعيشه ونحن قد درسنا الهندسة وقضينا سنوات في التحصيل وبعد ذلك مصيرنا مجهول ، يجب اثارة مثل هذه الموضوعات أحسن بكثير من نبش قبور الموتى.
طالب في كلية الاعلام في المرحلة الثانية قال: كل الذي اعرفه انه رجل عسكري عاش في بداية تأسيس الحكومة العراقية ، الطالبة في كلية العلوم للبنات قالت: أن جدتها دائما تذكر اسم هذا الرجل وتثني عليه وهي لا تعرف لماذا وما علاقة جدتها برجل يحمل اسم عبد الكريم قاسم؟ وطلبت مني شهد وكان هذا هو اسمها ان أحدثها قليلا عن ذلك الرجل التي تغرم به جدتها!