مضى شهر على رحيله.
ثلاثون يوماً هي الأيام الأطول في حياتها حتى الآن . مضى كل يوم وكأنه دهر .
رحل عن هذه الدنيا ليلقى وجه ربّه وتركها أرملة حزينة مكسورة الخاطر .
رحل وتركها وحيدة ، لا أب و لا أم ولا إخوة أو أخوات . والداها توفّاهما الله قبل شهور وكانت
فاتنة – بطلة قصتي وحيدتهما .
رحل وتركها أماً لجنين يتحرّك في أحشائها يريد الخروج إلى الحياة والنور – ولكن أيّ نور –
مسكين سيخرج ليجد ظلام اليُتم بانتظاره.
فاجأها خبر الحادث الأليم الذي أودى بحياة زوجها إذ لم يكن قد مضى على خروجه من المنزل إلا
دقائق قليلة.
ومن هول الصدمة فاجأها المخاض فوضعت مولودها بعد ساعة واحدة على رحيل أبيه .
بولادتها انقضت عدتها – سبحان ربّي حدث هذا لحكمةٍ لا يعلمها إلاّهو .
مضى الشهر الأوّل من حياتها كأرملة و من حياة ابنها كيتيم .
ومع انقضاء كلّ نهار كان يقبل الليل البهيم – المظلم – القاسي –البارد . فكانت تدخل إل غرفتها
لتختلي بآلامها وأحزانها و حرقة الفراق التي ما تزال تكوي قلبها في كل لحظة .
كانت و زوجها يعيشان مع والديه الكبيرين في السن الذين تجاوزا الستّين وبعد وفاته بقيت عندهما .
وها قد أقبل الليل لكنّه اليوم ليس موحشاُ . ففي صباح اليوم أخبرها عمّها والد زوجها الراحل بأنّ
ثمّة من يريد الزواج منها .صاحت :" لااااااااا ". لكنّ عمّها طلب منها التريّث والتفكير في الأمر .
وأخبرها أنّ الخاطب هوشقيق زوجها المتوفّى - هو ابنه المغترب الذي جاء بعد الحادث بيومين ليواسيهم بمصابهم .
لم يدم لقاءهما الأوّل إلاّ دقائق قليلة انسحبت بعدها باكيةً .
لم يكن لقاءً - فهي لم ترفع نظرها عن الأرض - لم تنظر إليه - لم تلاحظ جماله الفتّان وعلامات رجولته الطاغية - لم تسمع صوته الساحر - فقد طغى صوت نحيبها وانسحبت مسرعة
واليوم عند العصر وصل من السفر وطلب رؤيتها بمجرّد دخوله إلى البيت .خرجت إليه بعد تردّد وخجل .
في هذا اللقاء التقت عيونهما وحدثت شرارة - لا تدري لعلّها شرارة إعجاب أو شرارة افتتان أو لعلّها شرارة حب
وعندما اختلت بنفسها أحسّت أنّ الكون كله يرقص على ايقاع دقّات قلبها الولهان .
لقد فتنها هذا الرجل الأربعينيّ الساحر . جمال وأناقة وهدوء . ملامحه وكلامه يدلاّن على
شخصيّة متّزنة وناضجة . ناجح في حياته وأعماله وعلاقاته وأخبرها أنّ سبب تأخّر زواجه
أنّه كان يبحث من امرأة ظنّ انّها غير موجودة إلاّ في خياله الشاعري الخصب . وما إن رآها
حتّى أدرك أنّها هي المرأة الّتي يبحث عنها ويريدها زوجة له وأمّا لأولاده .
لم تستطع النوم . تقلّبت على جليد فراشها . أحسّت أنّ براكينها الثائرة تكاد تذيب ما حولها .
في الصباح التالي جاء باكراً طالباً ردّها فأجابته بالموافقة . أخبرها أنّه سيبدأ الترتيب لإجراءات سفرهما معاً وعندما سألته عن الطفل أجابها ببرود أنّه سيبقى مع جدّيه .
أصابتها خيبة أمل مرّة - نظرت إليه بذهول - وأحسّت بقلبها بين ضلوعها يكاد يتمزّق بين افتتانها بهذا الرجل وحاجتها إليه وبين تعلّقها برضيعها اليتيم وحاجته إليها
استمرّ الذهول بعض الوقت وانتهى عندما وصل إلى مسمعها صوت بكاء الصغير - نهضت مسرعة تلبّي حاجته وعادت بعها بقليل
عادت ترجوه أن يسمح لها باصطحاب ابنها كي تقوم على تربيته بنفسها لكنّه أصرّ على الرفض
عندها أخبرَته أن يلغي فكرة الزواج
واستدارت متجهة إلى معتزلها . كانت حزينة خائبة و لسان حالها يقول : " لو كان قلبي معي ..." .